logo yajnoub    

كيف ولماذا ينقسم العقل البشري إلى نصفين؟

2025/05/13 - 06:33:11am    باسم عمور    

لطالما شاعت مفاهيم مغلوطة حول أن النصف الأيسر من الدماغ هو مركز التحليل والمنطق، بينما يُنسب إلى النصف الأيمن الطابع الإبداعي والفني، لكن هذه التفسيرات المبالغ فيها تفتقر إلى الدقة العلمية، كما يؤكد البروفيسور إيرل ك. ميلر، أستاذ معهد بيكاور للتعلّم والذاكرة بجامعة MIT. يقول ميلر: "تُفكّر بعقلك كله، وليس بجزء منه فقط".
لكن عندما يتعلق الأمر بالإدراك البصري المكاني، يتضح أن الدماغ قد طوّر نظامًا خاصًا لتوزيع المهام بين نصفيه، بحيث يتعامل كل نصف مع الجهة المقابلة من مجال الرؤية. هذا الانقسام ليس عشوائيا، بل يمثل آلية تطورية تهدف إلى تعزيز القدرة الإدراكية وتجنّب الفجوات الخطرة في الانتباه.
- لماذا يفصل الدماغ بين الجهتين؟
في مراجعة علمية نُشرت في مجلة Neuropsychologia، استعرض ميلر وزميله الباحث سكوت برينكات من معهد بيكاور مجموعة من الأدلة على أن الدماغ يحتفظ بانقسام إدراكي حتى في مراحل متقدمة من المعالجة المعرفية، مثل الذاكرة العاملة والانتباه.
يوضح ميلر: "قدرة الإدراك محدودة، وإذا تم استغلالها بالكامل في جهة واحدة من مجال الرؤية، قد تغيب عنك تهديدات من الجهة الأخرى"، لذلك فإن تقسيم الموارد العصبية بين الجهتين يوفّر ميزة بصرية تُعرف باسم "الأفضلية الثنائية" (bilateral advantage)، حيث يستطيع الأشخاص تذكّر عناصر أكثر إذا تم توزيعها بين نصفي الدماغ.
- الدليل العصبي على انقسام الرؤية
أظهرت الدراسات أن القشرة الجبهية الأمامية - وهي مركز التفكير المتقدّم - لا تدمج المعلومات البصرية كليا، بل تحتفظ بميول معاكسة للجانب الذي ظهرت فيه المعلومات. فعندما يُعرض محفز بصري في الجهة اليسرى، يتفاعل النصف الأيمن من الدماغ بشكل أكبر، والعكس صحيح، هذه الظاهرة تُثبتها قياسات موجات الدماغ، حيث ترتفع قوة موجات "غاما" في النصف المقابل لمحفز بصري معين.
ومع أن هذه الأفضلية الثنائية لا تمنح دقة مثالية عند تتبّع عناصر متعددة، إلا أنها تمثل استراتيجية عصبية لتوسيع نطاق الإدراك، وتكشف أيضا عن اختلافات فردية في القدرة الإدراكية بين الأشخاص، وهو ما استثمره ميلر في تأسيس شركته الناشئة "SplitSage" لقياس وتحسين الأداء البصري في المهام المعقدة.
- أين ومتى يتكامل النصفان؟
رغم أن الدماغ يفصل في معالجة المعلومات المكانية، فإن إدراكنا للعالم يبقى موحدا وسلسا، نحن لا نشعر بانتقال الطائر من الجهة اليسرى إلى اليمنى كحدث معقّد، بل يبدو طبيعياً.
هذا الانسياب سببه "التسليم العصبي" المنسق بين نصفي الدماغ. فعندما يقترب عنصر بصري من خط المنتصف، يبدأ النصف المُستقبل في زيادة نشاطه قبل وصول العنصر، كما يبقى النصف المُرسل نشطًا بعد مروره، مما يخلق فترة انتقالية قصيرة يتشارك فيها النصفان الإشارة العصبية. يشبه ذلك آلية انتقال المكالمات بين أبراج الهواتف المحمولة أثناء القيادة.
- الأهمية الإكلينيكية لانقسام الدماغ
يرتبط أي خلل في تزامن أو اتصال نصفي الدماغ باضطرابات عصبية ونفسية عدة، مثل الزهايمر، والقلق، والاكتئاب، والفصام، واضطراب الوسواس القهري، واضطرابات طيف التوحد. ويؤكد ميلر وبرينكات في مراجعتهما أن فهم آلية هذا الانقسام وتكامله يمثل أساسا لتطوير علاجات جديدة تُركّز على شبكات الدماغ بدلا من مراكزه فقط.
تكشف هذه المراجعة المتعمقة عن ذكاء مذهل في تصميم الدماغ البشري، حيث يعمل الانقسام بين نصفيه ليس كضعف، بل كقوة لتعزيز الأداء الإدراكي، كما تفتح آفاقا جديدة لفهم ومعالجة الاضطرابات النفسية والعصبية من منظور الشبكات العصبية الشاملة.


المصدر:   معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)

 

 كيف ولماذا ينقسم العقل البشري إلى نصفين؟

أخبار ذات صلة

 

تابعونا