كائنات خارقة تقاوم الإشعاع وتعيش في الفضاء
تُعرف بطيئات المشية، أو ما يُطلق عليها اسم "دببة الماء"، بأنها واحدة من أعجب الكائنات الحية على سطح الأرض. رغم حجمها المجهري الذي لا يتجاوز المليمتر الواحد، فإن قدرتها على البقاء في أقسى الظروف تضعها في صدارة أكثر الكائنات مقاومة على كوكبنا، بل وربما في الكون بأسره. وقد نجت هذه الكائنات الفريدة من خمسة أحداث انقراض جماعي شهدتها الأرض منذ أكثر من نصف مليار عام.
لكن المفاجأة الأكبر هي قدرتها على مقاومة أحد أشدّ المخاطر على الحياة: الإشعاع.
دراسة صينية تكشف سر المقاومة للإشعاع
كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة "ساينس" أن العلماء الصينيين تمكنوا من التعرف على نوع جديد من بطيئات المشية يُعرف باسم "بطيء المشية الهيناني"، نسبة إلى مقاطعة خنان الصينية. على مدى ست سنوات، درس الباحثون الجينوم الخاص بهذا الكائن، وعرّضوه لجرعات متفاوتة من إشعاع غاما، لرصد تأثير ذلك على التعبير الجيني وإنتاج البروتين.
أظهرت النتائج أن هذا النوع لا يكتفي بحماية حمضه النووي من التلف الإشعاعي، بل يمتلك آليات مذهلة لإصلاحه بسرعة وكفاءة، كما يُنتج بروتينا فريدا يُعرف بـ"مثبط الضرر"، يحمي الحمض النووي من الآثار المدمرة للإشعاع. وبحسب الورقة العلمية، فإن بطيئات المشية قادرة على تحمل جرعات إشعاعية تعادل ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف جراي، وهو رقم يتجاوز قدرة البشر على التحمل بألف مرة.
كائن يعيش في كل مكان ... ولا يموت
تتواجد دببة الماء في كل بيئة تحتوي على ماء سائل، من المحيطات إلى قطرات الندى على النباتات، بل وحتى في أعماق الخنادق البحرية وقمم الجبال الجليدية. ويمكن رؤيتها بالمجهر فقط، حيث تبدو بأجساد ممتلئة ومجزأة، دون عظام، بل تحتوي على "الدملمف"، وهو سائل يشبه الدم يحمل العناصر الغذائية.
رغم صغر حجمها، فإنها معقدة للغاية: تملك ثمانية أرجل، وأسنانا حادة تشبه السكاكين، وتُعدّ من أشرس الكائنات المجهرية القادرة على افتراس خلايا أخرى وحتى اللحم البشري المجهرية.
قدرات خارقة غير مسبوقة
تمكنت بطيئات المشية من البقاء في درجات حرارة تصل إلى 150 درجة مئوية، وفي المقابل، نجت من التجميد في الصفر المطلق (-273 درجة مئوية)، وهو الحد الذي تتوقف فيه كل حركة جزيئية. كما نجحت في مقاومة ضغط يفوق ستة أضعاف ضغط خندق ماريانا، أعمق نقطة على كوكب الأرض.
وفي تجربة رائدة عام 2007، أُرسلت 300 من هذه الكائنات إلى محطة الفضاء الدولية، حيث بقيت في الفضاء لمدة عشرة أيام بدون أكسجين وتحت تأثير إشعاع هائل ودرجات حرارة منخفضة، ثم عادت إلى الأرض حيّة بل وقد تكاثرت خلال الرحلة.
أقوى كائن على وجه الأرض
يصف العلماء بطيئات المشية بأنها "أقوى حيوان على الأرض"، فهي وحدها القادرة على تحمل الانفجارات الكونية كأشعة غاما والمستعرات الأعظمية. وتشير الأدلة إلى أنها ظهرت على الأرض قبل العصر الكمبري، أي قبل أكثر من 541 مليون سنة.
وقد سُميت بهذا الاسم بفضل حركتها البطيئة، حيث أطلق عليها عالم الحيوان الألماني يوهان جوز اسم "دببة الماء الصغيرة"، ثم تبعه العالم الإيطالي لازارو سبالانزاني الذي سمّاها "تارديغرادا" أو بطيئات المشية.
قدرة على النجاة لعقود في حالة "الموت المؤقت"
السر الأهم لبقائها هو قدرتها على الدخول في حالة "تون" (Tun)، وهي حالة شبيهة بالموت تتقلص فيها بنسبة 95% من محتوى الماء في جسمها، وتغلق رأسها وأطرافها، لتتحول إلى قشرة صلبة يمكنها النجاة لعقود، وربما لقرون، قبل أن تعود للحياة بمجرد توفر الماء.
وتنخفض عمليات الأيض خلال هذه الحالة بنسبة تتجاوز 10 آلاف مرة من المعدل الطبيعي، ما يسمح لها بتجاوز كل الكوارث البيئية والبشرية.
هل تعيش بعد انقراض البشر؟
تشير دراسة من جامعة أكسفورد إلى أن بطيئات المشية قد تعيش 10 مليارات سنة إضافية، أي أطول من عمر البشرية بأضعاف. وذلك لأنها غير متأثرة بعوامل تؤدي إلى دمار الحياة على الأرض، مثل تغير المناخ، أو انفجارات النيازك، أو حتى انفجارات المستعرات العظمى.
ومع ذلك، يحذر البروفيسور بول بارتلز من وصفها بـ"الخالدة"، فهي رغم مقاومتها الشديدة في حالة التون، كائن حساس يمكن أن يُؤذى بسهولة في حالته الطبيعية، وقد تتغذى عليها كائنات وحيدة الخلية أكبر منها.
تطبيقات طبية وفضائية واعدة
الاهتمام العلمي ببطيئات المشية لم يكن بدافع الفضول فحسب، بل لتطبيق قدراتها في مجالات الطب وعلوم الفضاء. فالبروتينات الخاصة بها تُعدّ مرشحة واعدة لتطوير مواد مقاومة للإشعاع، وحماية الخلايا البشرية، بل وحتى المساعدة في علاج السرطان.
تعمل أبحاث حديثة على استكشاف إمكانية استخدام قدراتها لحفظ اللقاحات دون تبريد لفترات طويلة، مما قد يحدث ثورة في الطب الوقائي، لا سيما في المناطق النائية أو خلال رحلات الفضاء.
كما أشارت دراسة بقيادة الباحثة أماندا سميثرز من معهد دانا فاربر إلى أن أسرار بقاء بطيئات المشية قد تُستخدم في تصميم بدلات رجال الإطفاء، أو تطوير علاجات قادرة على استهداف الخلايا السرطانية بفعالية أعلى في الظروف القاسية.
هل تمهّد الطريق لحياة بشرية خارج الأرض؟
تفتح دراسة بطيئات المشية آفاقا جديدة لفهم كيفية التكيّف مع البيئات المتطرفة، مما يساهم في تطوير حلول تسمح للبشر بالعيش في ظروف تشبه تلك الموجودة على المريخ أو الكواكب الأخرى، ويأمل العلماء في نقل بعض خصائص بطيئات المشية إلى البشر يوما ما، لحمايتهم من آثار الجاذبية المنخفضة والإشعاع الكوني أثناء رحلات الفضاء طويلة الأمد.
المصدر: مجلة
