عن خسارة وئام وهاب...التي تشبه الربح.
سامي كليب: حين أشاهد أو أقرأ وئام وهّاب، أسترجع ذكريات كثيرة مشتركة لنا في خلال السنوات الأخيرة للحرب اللبنانية. أذكر سيارة الرينو، والعطر الغريب الذي يحتفظ به في سيارته ولا يحيد عنه، وقوافي الشعر التي كنا نتبارز بها ونضحك. أذكر اجتيازنا سويا خطوط النار والتماس تحت القصف وبين البيوت المدمّرة، لكي نصل الى منزل رئيس حركة أمل، أحد أبطال بيروت آنذاك ضد إسرائيل، نبيه بري في منطقة بربور البيروتية، أو نعود من عند المفتي الشهيد الوطني حسن خالد رحمه الله، أو نعرّج على الرئيس الشريف د. سليم الحص، أطال الله عمره، أو نقصد الرئيس العروبي الشهيد رشيد كرامي..... وذلك لتسجيل برنامجنا الإذاعي أو لمعرفة آخر الأخبار.
لا أدري كيف كان يأخذنا كل أولئك السياسيين على محمل الجد ونحن لا زلنا في مقتبل العمر، لكني أعرف أننا كنا محفوفين بأمل كبير بأن يصبح لبنان يوما ما بلدا ديمقراطيا علمانيا عادلا يتسع للفقراء ويفسح في المجال أمام المحرومين للتعلم والطبابة وحياة كريمة وعدم الموت على أبواب المستشفيات.
أذكر ضحكاتنا في السيارة ونحن نجتاز خطوط الموت، فوئام كان دائما كما حاله اليوم صاحب نكتة وسريع البديهة. اذكر كذلك خلافاتنا الكثيرة في المطاعم القليلة في أوج الحرب على من سيدفع الفاتورة، فكنا نتسابق على ذلك ، فمرة يربح هو ومرة أنا، لكننا عشنا كشقيقين ننتظر انفراجا للبنان أو الموت تحت القذائف، ونحبو بسرعة على طريق الصحافة. ثم اكتشفت لاحقا أن وئام كان يلعب دور وساطة تحت الطاولة مع سمير جعجع أو إيلي حبيقة.
لم نكن، وئام وأنا نؤمن كثيرا بخزعبلات السياسيين، ولا بالشعارات الفارغة يسارا ويمينا، لكننا كنا نؤمن بأن إسرائيل دولة ظالمة تعتدي على بلدنا، وأن العروبة نبراسا لا خلاص لنا بدونه، وأننا لن نفرّق يوما بين بيروت والقاهرة والجزائر والرباط ودمشق وصنعاء... كنا نقرأ كثيرا ونتابع كثيرا ونحلل كثيرا خلافا للكثير من أبناء جيلنا.
افترق طريقانا، أنا ذهبت لمتابعة العلم في فرنسا، وهو بقي في لبنان يتسلق سلم السياسة شيئا فشيئا، حتى وصل الى ما وصل اليه. أرسلت له رسالة من فرنسا هنأته بالوزارة، وقلت له:" أخيرا حلمك تحقق، وهذا يسعدني من كل قلبي يا وئام لأن اختراقا كبيرا في بلد العائلات والزعامات والبيوتات والمحسوبيات أمر يُحسب لك بغض النظر عمن دعمك "
لن أتحدث عن الخيارات السياسية اللاحقة، فقد أختلف معه على بعضها وأتفق على الثوابت المتعلقة بالمقاومة والعروبة، لكن لا بد من القول إن وئام بنى نفسه بنفسه. هو ابن عائلة شريفة ومتواضعة، والده كان مدير مدرسة قريته، وأمه الشيخة الفاضلة كان ترشح إيمانا وطيبة وكرما، كانت تحبني كأبنها تماما كما أن أمي كانت تحبه كأشقائي.
لم يتوقف حلم وئام يوما. عنده قدرة هائلة على التواصل مع الناس. لعبت شخصيته الكاريزمية دورا كبيرا في أن يصبح أحد أكثر الوجوه مشاهدة على الشاشات، بقي قريبا من الناس ، كريما وشجاعا الى أقصى حد، وحين جرت الانتخابات الأخيرة، نشط في أكثر من اتجاه راغبا في تحقيق اختراق يشكل سابقة في الجبل.
تشير النتائج الى أنه كاد يحقق هذا الاختراق. هذا بحد ذاته أمر كبير خصوصا بإمكانيات محدودة . فأن تتوازى الأصوات التي حصل عليها تقريبا مع أصوات الوزير النشيط والسياسي العريق وابن العائلة الجبلية العريقة مروان حماده، فهذا يعني أمرين: أولا أن وئام حقق اختراقا شعبيا يستحق التوقف عنده، وثانيا، أن ثمة من صوت له من منطلق النقمة على الآخرين. هذا أمر ليس عابرا أبدا لمن يعرف تركيبة الجبل والتراث التاريخي الكبير الذي يمنع أي اختراق جديد في بيئة محكمة الاغلاق والزعامة.
سمعت اليوم لوما من وئام حيال حزب الله. ربما هو كان يأمل بأكثر مما تحقق. ربما كان يعتقد بأن الحزب سيحرك ماكينته بقوة لمساعدته. تماما كما كان يعتقد الأمر نفسه حيال التيار الوطني الحر نظرا لعلاقته الجيدة مع الرئيس ميشال عون.
لا أدري ماذا فعل الحزب. لكني أعرف أن حزب الله لم يقتنع يوما بعمق بأن وئام يمكن أن يشكل بديلا أو قوة مواجهة لزعيم الجبل وليد جنبلاط. الحزب لا يزال حتى اليوم يعتبر جنبلاط هو الزعيم قبل وئام وقبل الأمير طلال أرسلان وقبل فيصل الداوود. ليس مهما كم مرة اختلف معه، لكنه مقتنع بذلك . ثم ان رئيس مجلس النواب نبيه بري، لم يكن ليقبل أبدا بأن يهتز موقع صديقه وحليفه الاستراتيجي التاريخي جنبلاط لصالح وئام وهاب. هنا يمكن أن الوم وئام على أنه كان يأمل أكثر من المحتمل والمقبول في حسابات الداخل اللبناني، فمحور المقاومة لم يُرشّح منافسا لمرشح جنبلاط في بيروت، وتفاهم معه في بعض المناطق الأخرى ولا شك أنه سيعود للتفاهم معه لاحقا.
أنا شخصيا لم أشارك في التصويت، لأن الانتخابات بشكلها الحالي تناقض قناعاتي غير الطائفية، لا أقبل مطلقا أن أصوت لمرشح يمثل مذهبي، ولن أصوت الا حين أستطيع أن اصوت لمرشح وطني بغض النظر عما اذا كان مسيحيا أو مسلما أو درزيا أو علويا أو كرديا أو أرمنيا، وبغض النظر من أي منطقة هو وما هو لونه وجنسه وعرقه.
أما وقد استقرت أمور الجبل على ما اسفرت عنه نتائج الانتخابات، فأنا أتمنى أن يقدم الشاب تيمور جنبلاط سياسة تشبه جيله وتشبه حداثته وانفتاحه. لقد بدا في خلال لقائه الأول على تلفزيون أل بي سي، صادقا وشفافا ومتواضعا وقريبا للناس، لكنه بدا أيضا بحاجة الى صقل سياسي ليس سهلا في هذه الغابة السياسية الصعبة....أتمنى أن يضع مشروعا اصلاحيا انمائيا وأن يعزز المؤسسات، فأمل الشباب به كبير. وأتمنى أن يعيد توسيع دائرة الاهتمام صوب الوطن بمجمله خصوصا أن الكتلة النيابية الحالية جيدة.
رسخّت انتخابات الجبل زعامة آل جنبلاط، وأنعشت الحزب التقدمي الاشتراكي، لكنها كشفت في بعض جوانبها أيضا أن الناس لن تتردد في البحث عن بدائل... لعل ما حصل عليه وئام وهّاب دق ناقوس الخطر، تماما كما أن النتيجة التي حققها الأمير طلال أرسلان مهمة ولافتة، ولا بد من أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار خصوصا أن طموحات الاخرين من التيار الوطني الحر الى القوات اللبنانية لن تكون قليلة في المرحلة المقبلة في تلك المنطقة التاريخية والمهمة في الجغرافيا اللبنانية.
أما ما ظهر من تباين بين وئام وحزب الله، فأنا اعتقد جازما أنها سحابة صيف عابرة.... وأنها ستنتهي بلقاء بين الجانبين. لكن الأهم هو لقاء أبناء الجبل جميعا على طاولة واحدة دروزا ومسيحيين ومسلمين، لأن في الجبل تُبنى مداميك حقيقية لوطن كان الجبل في أصله.