مهزلة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت
منذ اليوم السادس على انفجار مرفأ بيروت، اكتشف اللبنانيون أنّ كبار مسؤوليهم قرّروا، بعد ساعات على حصول هذه المأساة، أن يبيعوهم الأوهام، برمي الأكاذيب.
الكذبة الأولى التي أعقبت دويّ الانفجار، تجسّدت في ذاك الوعد المعلن بأنّ التحقيقات ستكون، بمتناول اللبنانيين، بعد خمسة أيّام فقط.
وها قد تراكمت الأيّام لتتجاوز الأشهر الأربعة، من دون أن يُقدّم أيّ مسؤول أيّ جواب حتى عن أبسط الأسئلة وأكثرها بديهية.
دون شك أنّ الكذب كان يهدف إلى “تبريد” الغضب الوطني العارم، وإلهاء اللبنانيين بويلات كثيرة أخرى.
وفي مكان ما، كادت خطة “استيعاب الصدمة” المبنية على الكذب والتدليس، أن تحقّق أهدافها “الخبيثة”، فغالبية اللبنانيين وجدوا أنفسهم، وفي ظل كارثتهم المالية والاقتصادية والاجتماعية، يشترون “الوعود الوردية” التي حملتها المبادرة الفرنسية ودينامية الرئيس إيمانويل ماكرون الذي لم يحرّك فقط القيادات اللبنانية بل المجتمع الدولي أيضاً.
وسرعان ما اكتشف ماكرون أنّه أصبح في وحدة حال مع الشعب اللبناني، فمن يكذب على شعبه فلن يتردّد لحظة في الكذب على رئيس دولة أجنبية.
ولكنّ الفارق بين اللبنانيين وماكرون أنّه هو، وعن حسن نيّة، كان شريكاً للمسؤولين اللبنانيين في تمييع التحقيق وفي تغييب الحقيقة، ذلك أنّه، في حمأة تعاونه مع القيادات السياسية، لتشكيل “حكومة مهمة” تتولّى تنفيذ “مبادرته الإنقاذية”، راح مع وزرائه ومعاونيه، يُخفّف من وطأة التأخير في كشف الحقيقة بخصوص انفجار المرفأ، بعدما كان قد وافق، في ضوء لقاءات “قصر الصنوبر”، على وضع مطلب التحقيق الدولي في هذا الإنفجار الذي أسقط مائتي قتيل وأكثر من ستة آلاف جريح، “على الرف”.
وقبيل “مؤتمر دعم الشعب اللبناني” الذي انعقد، مساء الأربعاء الماضي، بدا واضحاً للمسؤولين اللبنانيين أنّ باريس تتّجه الى تغيير استراتيجيتها في هذا الملف، من خلال الحث على كشف الحقائق المتصلة به، بعدما كانت قد ساهمت سابقاً في عملية “التخدير”.
وبدا لافتاً أنّ الموالين للسلطة اللبنانية استبقوا ذلك بأن تعمّدوا إعطاء “معلومة خاطئة” مساحة ترويجية واسعة.
وكانت هذه “الشائعة”(“فايك نيوز” بلغة العصر) تشير الى أنّ السلطات الفرنسية لم تعط الجهات اللبنانية المختصة أيّ صور فضائية طلبتها منها، بحجة أن قمرها الصناعي الذي يغطّي لبنان، كان معطّلاً.
وقبل ساعات قليلة من بدء “مؤتمر دعم الشعب اللبناني” أعماله، سارع مصدر في الرئاسة الفرنسية الى نفي صحة هذه المعلومة، وتأكيده أنّ سلطات بلاده سلّمت لبنان الصور المطلوبة، وأنّ القمر الصناعي لم يكن معطّلاً أبداً.
هذا التأكيد الفرنسي الذي يُبيّن الوقائع، لم يأخذ، بطبيعة الحال، المساحة التي كانت قد أخذتها المعلومة الخاطئة.
وعندما صدر البيان الختامي للمؤتمر، بان السبب، فـ”الدول المانحة” أسقطت “استراتيجية الإنتظار” التي كانت قد اعتمدتها سابقاً، فأعربت عن استيائها من التأخير في التحقيقات حول انفجار المرفأ، وورد في البيان، لهذه الجهة كلام واضح، مفاده الآتي:” إنّ المشاركين يعربون عن قلقهم من التأخير في التحقيق حول انفجار الرابع من آب(أغسطس)”.
وكانت الصحافة الفرنسية التي اهتمت بمقالاتها “منظمة العفو الدولية”، (“ميديا بارت”، على سبيل المثال) قد دعت الرئيس ماكرون، قبل أيّام من انعقاد “المؤتمر الإنساني” إلى “إعطاء التحقيق اللبناني في انفجار مرفأ بيروت الوصف الذي يستحقه: مهزلة تهدف الى تجنيب القيادات اللبنانية دفع الثمن، وإلى حماية النظام الفاسد والمنحرف، الذي سمح بوقوع هذا الحدث المأساوي الذي كان يمكن تجنّبه”.
وهذا يفيد بأنّ القيادات اللبنانية، بعدما جرى تجنيبها التحقيق الدولي في ملف انفجار مرفأ بيروت، وجدت نفسها، بعد مرور أكثر من أربعة أشهر، أمام مساءلة دولية.
والمساءلة الدولية التي تبني مشروعيتها على استياء كبير من هذه القيادات السياسية، لن تكون سهلة، ذلك أنّ الدول المعنية ببلاد الأرز والتي شاركت في “مؤتمر دعم الشعب اللبناني”، بدأت تكتشف الكثير عن حقائق المتحكّمين بلبنان، فهم أثبتوا بالدليل القاطع أنّهم مستعدون لرؤية بلادهم مدمّرة وشعبهم مرمياً على رصيف الأمم، في حال تضرّرت مصالحهم الشخصية والأنانية، وهم لا يأبهون بالتحذيرات والإنذارات التي تردهم من كل حدب وصوب، طالما لم يتوفّر لهم ما يرغبون به في صراعاتهم الصغيرة.
وهذا يُعطي صورة واضحة عن الأسباب التي سمحت بوقوع انفجار المرفأ، على الرغم من التحذيرات والإنذارات التي ثبت أنّها وصلت، في الوقت المناسب، إلى أكبر المرجعيات السياسية والأمنية والإدارية والقضائية في البلاد، بدءًا برئيسي الجمهورية ميشال عون والحكومة حسّان دياب.
إنّ من حق اللبنانيين قبل غيرهم، في ظل ثبوت الكذب الرسمي من جهة أولى والتمييع القضائي من جهة ثانية وغياب التوضيحات المسؤولة من جهة ثالثة، أن يربطوا بين أيّ حدث وبين هذا الإنفجار، كمقتل المسؤول السابق في الجمارك العميد منير أبو رجيلي، وأن يتساءلوا عن مدى تورط ميليشيا تستعمل في عملياتها العسكرية مادة “نيترات الأمونيوم” بانفجار المرفأ، كربط موجودات العنبر الرقم 12 ب”حزب الله” الذي يخشاه السياسيون والإداريون والأمنيون والقضاة في لبنان.
كما من حق المجتمع الدولي والمنظمات العالمية ومعها كبريات وسائل الإعلام أن تصف، في ضوء ما كشفته التحقيقات التي أجرتها والوثائق التي وصلتها، التحقيقات اللبنانية في انفجار المرفأ بالمهزلة.
والأهم أنّ من حق الضحايا الذين تحرقهم دموعهم وتثخنهم جراحهم وتقض مضاجعهم خسائرهم أن يستدعوا الجميع الى الوقوف معهم لإعلاء الصوت ضد طبقة سياسية تثير اشمئزاز قادة العالم وتقود لبنان في رحلة مأساوية، من درك الى آخر في الجحيم.
المصدر: النهار